اليوم المشئوم


اكتظ المكان بالمثقفين والمثقفات يشاركهم ذلك الجو الدافئ عمال النظافة ورجال الامن .. يجلس " مدحت الجوهرى " على كرسى خشبى ومنضدة تبنية الصنعة واضعاً حقيبته بجانبه من عناء السفر الذى حلّ به .. لا يقدر على استيعاب الموقف .. لا يستطيع التقاط أنفاسه فى ارتياح كما كان فى السابق .

* اتفضل يافندم
* شكراً لك
يتفقد القائمة ليقرر ما إذا كان سيأكل أم يكتفى باحتساء مشروب خفيف لحين وصول أصدقائه ...
حدثّ مدحت نفسه " سآخذ كوباً من الفراولة أو البرتقال " .

* ممممممم ما طلبك يافندم ؟
* كوب ليمون ، إذا سمحت ..

خرجت الكلمات من فمه ومعها خرجت عيناه من الدهشة على إثرها توقف لحظة كأنه كان ينظر الى تلك الحروف التى خرجت منذ قليل .. ما هذا لقد طلبت ما لا أريد .. أهو الارتباك ؟! أم أن شيطاناً قد سمح لنفسه أن يكون نائباً عنى فى طلباتى .. حسناً لا يهم ! ..
قالها مدحت محدثاً نفسه . ثم عاد إلى ماكان عليه ... وضع كوب الليمون جانباً أمسك بكتابه يُكمل قراءته .. حالة من التشويش والريبة تسيطر عليه .. هذا لم يحدث له من قبل .. لم يكن مصاباً بأى من الامراض النفسيه .. حتى كل الظنون التى كانت تساوره تخبره أنه مصاب بالشيزوفرينيا .. لم تكن صحيحة على الإطلاق لكنه دائماً ما كان يخبرنى بذلك ، يخبرنى أنه مصاب بذلك اللعين .
" أنا لا أرسم الاشخاص غير المتواجدين فى مخيلتى و أحدثهم أو أصدق أنهم أمامى ، لا ليس بالضبط بل أتخيلنى أنا فى حوارات لم تحدث .. أعرف تمام المعرفة أنى فى خيال يزيد حدة وانجرافاً عن أحلام اليقظة ، ولتكن أحلام يقظة لا يهم أنا مريض يا صديقى ولكنى لا أستطيع تحديد هوية المرض " .

* هذا آخر ما أخبرنى به يا دكتور ، " مدحت " صديقى منذ الطفولة بل إنه صديق الخروج لذلك العالم .. صديق " سرير الولادة " .. ذلك اليوم المشئوم كما وصفته والدته ومن الواضح أن " فالها " كان صادقاً فكأنما وضعتها حلقة فى أذنه منذ ولادته ، فبدأ فى كره نفسه ..
كان هذا آخر ما أخبرنى به إبراهيم على
استضفته فى عيادتى بعد انتهاء ساعات عملى لأسمع منه عن صديقه " مدحت " كنت مستعجباً من ذلك ..
فلم أسمع طوال حياتى المهنية عن شخص يعانى من مرض يعانى منه صديقه
دائماً ما استمع من المرضى مباشرة دون وسيط .. أتعامل معهم .. أعالج مخاوفهم وهواجسهم المرضية بكل سهولة
أثار الأمر فضولى واهتمامى .. حتى أصبحت من يتابع إبراهيم بالهاتف بعد ان انتهى من يومى المتعب فى عيادتى لاروى الفضول وافهم هل هى احجية أم انها حالة مرضية جديدة أم ماذا .. ؟؟!

* * * * * * *

صباح يوم الاحد السابع والعشرين من ديسمبر هو اليوم المشئوم الذى وُصِفَ به يوم مولد مدحت ، توقعت أن هذا هو اليوم المنتظر أو أنه اليوم القادم وفى يده يمسك حل الاحجية التى مضى على بدأها بها خمسة وأربعون يوماً كونت لدى هواجس مرضية خشيت أن تستمر معى وتتحول الى مرض نفسى حقيقى ... فى مثل هذا اليوم منذ عامين .. توفى والد مدحت ومعه والد إبراهيم فى ظروف غامضة .. وفى نفس اليوم منذ عام فقط .. توفيت والدة مدحت ووالدة إبراهيم ايضاً !!! .. ماهذا صُعقت عندما أخبرنى إبراهيم بهذه المعلومات .. ليخبرنى انها لم تكن مصادفة على حد معرفته انها كانت جريمة قتل غامضة فى نفس الموعد الذى وُلد فيه مدحت .. أحسست من كلماته انه يتهم مدحت بالقتل خاصة وانه يوم مولده الذى كان دائماً ما يُوصف بالمشئوم .
كفى .. كفى غباء .. حدثت نفسى بعدما انصرف إبراهيم .. ألهذه الدرجة أنا احمق .. كيف أسمع من شخص يقص على حكايه شخص اخر واحكم على عقله إن كان مريضا أو صحيحا من خلاله ... اننى طبيب أنسيت .. لا بد أن اقابل مدحت .
طلبت من إبراهيم تدبير موعد لى مع مدحت لكى يكون التواصل مباشراً وسهلاً .

* * * * * * *

صباح اليوم التالى قابلت إبراهيم اخبرنى بان مدحت مريض ولن يستطيع مقابلتى .. زادت شكوكى اكثر واكثر .. طلبت منه ان اذهب اليه فى منزله ... فانا لن استطيع الانتظار اكثر من ذلك .
دخلت المنزل .. ذوق رفيع ينمّ عن عقلية جميلة عكس ما تصورتها تماما .
الاهم جلست لاحدث مدحت .. طلب مدحت من إبراهيم ان يذهب ليشترى بعض الاشياء ... ما إن نزل إبراهيم حتى اعتدل مدحت من جلسته ، وحدثنى .. " يادكتور ..إننى فى ورطة كبيرة، أنا القادم .. أنا القادم يا دكتور .. إبراهيم اخى وليس صديقى .. ابراهيم اصيب بمرض نفسى عجزت عن تفسيره ... عرفت انه قد اتى الى عيادتك ليقص عليك حكايته لكن بدلاً من وضع شخصيته وضعنى انا .. اراد اتهامى بالجنون .. هو من قتل والدى ووالدتى .. وهما اثنان فقط وليس اربعة كما اخبرك .. هو دائماً ما يعتقد انه من اب وام واننى من آخريّن .. لا يستطيع الاقتناع باننا اخوان ."

* هدئ من روعك يا مدحت .. لماذا يفعل هكذا .. ؟!

* لا اعلم .. أَحب فتاة فى الثانوية استمرت قصة حبهما قرابة العشر سنوات .. وبعد تخرجه فى الجامعة وجد انه ليس لديه من المال ما يساعده على بناء حياته .. رفض أبوه أن يساعده .. كان دائماً ما يقول له أنت فاشل لا تستطيع الاعتماد على نفسك ... اصبح كل همه هو الحصول على المال لاجل ان يتزوج تلك الفتاة .. ولكن فات الأوان .. لقد تزوجت الفتاة منذ عامين وهو مايتفق مع موعد قتل والدى .. لا أعلم أكثر من ذلك .

* ايمكننى الانصراف .. ساتحقق من بعض الامور بنفسى واعود لاحادثك مرة اخرى .. مع السلامة .
خرجت من المنزل بسرعة شديدة ... ما يقصه إبراهيم مختلف عما يقصه مدحت وكأن كل منهما يريد التخفى وراء شخصية الاخر من خلال انتحالها .

وما إن خرجت من المنزل وتمشيت قليلا حتى وجدت إبراهيم مقتولاً ومطروحاً على الطريق .. جنّ جنونى .. وزادت شكوكى أكثر .. ذهبت إلى مستشفى الأمراض العقلية .. بحثت فى كشوف من تم احتجازهم على مدار عمر المستشفى تلك .. حتى وجدت أن ..
إبراهيم محمد عبدالعزيز الجوهرى ، ومدحت احمد عبدالعزير الجوهرى
كانا من المحتجزين هنا .. وقد هربا منذ ثلاثة اعوام .

- تمت -

عبدالله فرحات 
يناير 2014