(1)
هذا هو بيت القصيد .. مرة أخرى ، ككل المرات التي سبقتها ، يسلك نفس الطريق
، يرى نفس المنازل ، نفس الأشخاص ، نفس أعمدة النور .. نفس كل شيء ..
( عم جلال ) يبيع ألعابًا فاسدة للأطفال ، بالطبع يحتال عليهم بشكل ما ،
وعادةً ما يعود أغلبهم ثائرين مطالبين بأموالهم ..
أم ( شخص ما ) تفعل شيئًا ما في شرفة منزلها .. تحت الشرفة يكون ابنها (
أحمد ) ( إذًًا هي أم ( أحمد ) ) – جالسًا على الرصيف يلهو بالكلاب الصغيرة
الوليدة منذ أيام ، وأغلب الظن أنه يجمعها من بين مقالب القمامة ..
بعض المصلّين يكونون عائدين لتوّهم من صلاة الجمعة ، من بينهم ستجد ( سيد )
، منظم عمليات البحث عن الكلاب الوليدة منذ أيام .. طفل صغيرهو ، من طراز الأطفال
اللذين يظنون أنفسهم رجالا ، ويشعرون بالإهانة إذا قلت لهم أنهم أطفال .. ستجد (
فؤاد ) والده ، شخص لا يتهمه أحد بالحكمة على الرغم من أنه يدّعيها ، مغرور يتمتع
بقدر هائل من الفراغ النفسي .. ستجد ( جابر ) الغفير ، و ( علي ) النجّار ... وكل
أولئك القوم اللذين لا يصلون غير صلاة الجمعة على مدار الأسبوع ..
هنا في القرية ، بسهولة يمكنك أن تجد شخصًا اسمه ( سنتريسي ) أو ( سطوحي )
أو أي اسم من هذه الأسماء التي تفكر فيها أول الأمر : " من المخبول الذي يسمي
ابنه بهذا الاسم ؟!! " ثم تفكر مرة أخرى فتجده طريفًا ، أو تجده في النهاية
ملفقاً .. القضية هنا ليست حال الاسم ، بل حال القلب مع الاسم ، وحال تعلق المرء
بأسماء كهذه من باب تعلّقه بقريته وموطنه الأصلي ...
هنا على اليمين ، تجد المقهى ، ناهيك عن بعض الـ...
ــ نيهاهاهعهااااي .. هعهعهعهع
ضحكات كفيلة بإحياء أموات ( بلجيكا ) ,, وطفل يلعب شيطان المزاح في رأسه
فيخطف النرد من طاولة اللعب ويطلق قدميه للريح ... فيهرع مرتادي المقهى كلهم خلفه
كأنهم فعلوها عشرات المرات في عشرات الأيام من قبل ...
ــ ( حرااااااميييييي ) .. تعال هنا يا ابن اللصوص ...
من حسن حظ الفتى أو من سوء حظهم أنهم لا يعثرون عليه أبدًا ، وتفسد اللعبة
وتنتهي على شجار بينهم على " من يفوز " ...
أما إذا تخطيت المقهى ودخلت هذا
الزقاق الطويل ، وسلكت زقاقًا آخر بعده ؛ فقد أُقحِمتَ في براثن أم ( حسين ) أمهر
نساء القرية في النميمة .. ابنها ، ( حسين ) ، جالس بملابس الفلاحين المعتادة :
الكالسون والصديري ..يفترس البطيخ ويبصق بذره على الأرضية من حوله ، يشاهد التلفاز
لكن عقله مشغول بشئون الأرض ومشاكلها ...
عندما تقرر أم ( حسين ) أن تتركك وترحل أنت حامدًا الله على نعمة الحرية ،
تكون قد اقتربت من هذا البنك الزراعي الصغير .. تعبر الشارع ، ( جميلة هي قلة
السيارات في القرى ) ، سيكون أول ما تراه هو المركز الطبي .. لن تحب الدخول ، فدع
( عماد ) يدخل وحده لكي يمارس عمله اليوميّ ...
(2)
نفس المرضى ، نفس الأدوات الطبية ( لا داعي أبدًا لوصفها ) .. في النهاية ؛
نفس المركز ..
في ملل دخل المكان الذي يفترض به أن يكون مكتبًا .. بضع حشرات تحتفل في ركن
الغرفة ، وتنهي الحفل الصاخب عقب دخول صاحب المكان الذي يفترض به أن يكون مكتبًا
.. ! ..
كعادته مضى ناحية النافذة ، دس رأسه في فرجتها و...
ــ ( إبراهيم ) ... القهوة ...
ــ تريد شيئا آخر يا دكتور ؟!
لم يرد لأنه كان في الداخل بالفعل ..
سرعان ما سيأتي ( إبراهيم ) الخفير الطيب بفنجان القهوة ، ويخرج دون ان
يلاحظ ( عماد ) وجوده ، أو دون أن يحب ملاحظته .. سرعان أيضا ما سيقلب ( بسيوني )
القرية رأسًا على عقب :
ــ بيب .. بيب .. بييييييييييييييييب ... بروووم ....
ويركن السيارة أمام بابا المركز و ..
ــ ( عمآااااااااد ) .. يا رجل ما بك ؟! .. تبدو مثل السيارة الـ ( كونبيل
) .. هعهعهعهع ..
اضطر إلى تفسير المزحة لأن ( عماد ) ، الناظر من النافذة ، لم يفهمه جيدًا
..
ــ أقصد أنك تبدو عتيقًا يا دكتوووور .. هعهعهع ...
ثم يسأل سؤالا وجيها :
ــ يا دكتووور .. ألا تعرف دواءً جيدًا للحموضة ؟!!
ويقفز الدرجات المعدودة متجها إلى حيث يكون " الدكتور " .. يجلس
على كرسي خشبي ، ويأخذ فنجان القهوة فيجرعه جرعة واحدة أمام نظرات ( عماد )
الساخطة .. ثم يتحدث فيطيل الحديث ، وبالتأكيد عن شيء من هذين : " السيارات
.. أوكيفية القيادة المحترفة ... " ..
في النهاية يضطر ( عماد ) إلى التملص منه مدّعيًا الاهتمام بصحة مريضيه
الاثنين .. !
شاحبان كمصاصَي دماءٍ ، طاعنَان في السن .. ثملان من المرض ، وبالتأكيد من
متلازمة كبار السن : ( السكري ، وضغط الدم ) و ... هناك ما يستحق إضافته .. كلاهما
يحب الثرثرة ....
(3)
بصوت ( عبد الحميد )
– أحد المريضين - :
*
عبد الحميد :
ــ لا أذكر في أي عام بالضبط .. لكنه كان في السبعينيات ، وبعد الحرب ،
ربما عام ( 75 ) .. كنت في شبابي أعيش في القاهرة مع زوجتي .. في شقة صغيرة بغرفة
واحدة صغيرة وحمام ومطبخ صغيرين .. كح .. وبالطبع لا يمكن اعتبار الأمتار الاثنين
صالة .. !
كنا فقراء لكننا مع ذلك عشنا راضين نحمد الله على كل شيء وكل حال .. لم
تدخل اللحوم بيتنا إلا مرة في الشهر ولـ......
عماد :
ــ المهم يا عم ( عبده ) .. المهم ..
عبد الحميد :
ــ صبرا يا دكتور .. أنا أحب الكلام على " رواقة " ... المهم ،
كنت أعمل في محطة قطار ، أقطع التذاكر لمن يريدون السفر .. لم تكن وظيفة مريحة ،
ولم تكن مربحة .. لكننا كنا راضين نحمد الله على كل شيء وكل حال ( يتمنى ( عماد )
أن يضربه في أنفه المعقوف هذا ) ... كنت أعمل ورديتين لأجني المزيد من المال ،
ناهيك عن أن هذا لم يحدث فرقا لكنني كنت راضيا أ... احم .. المهم ... كح كح .. في
ليلة من ليالي هذا الشهر ؛ قررت أن أعود مبكرا للمنزل ، كنت مرهقا لا أقوى على شيء
، فاضطررت إلى الاستئذان ... وكان نظام المحطة بدائيا نوعا ما ، فكنت تمر ببعض
المقصورات المتوقفة ليلا حتى تتمكن من الخروج ... لسبب ما قررت أن أفحص إحداها ،
مشيت على قضبان قديمة صدئة .. كح .. ثم دخلتها ، نعم ، تلك المهيبة الكبيرة ، أو
هكذ رأيتها ... و.. ونمت !! ... لم أعرف السبب ، لكنني أطفأت المصباح وغفوت ببساطة
، واستيقظت على صوت أجش ينادي أن : " الله أكبر ، الله أكبر " .. كان
هذا الفجر ، الأهم هنا أنه عليهم أن يغيروا هذا المؤذن .. لكنني أرى أن له الفضل
الأكبر في إيقاظي ... لا أعرف شيئا .. عرفت فقط أنه ليس مجرد دافع هو الذي أخذ
بيدي إلى هذه المقصورة ، والأسوء أنه ليس مجرد نعاس هو الذي طغا على جفنيّ .. إنه
شيء يستحق أن نسميه " شيئًا " .. شيء فوق فهمي وفهمك ... ظننت أول الأمر
أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قد قرر أن يؤرق .. كح .. حياتي .. لكنني لم أعرف
أبدا أنني سأكون بطل هذه القصة ....
عماد :
ــ إذًا ماذا حدث ؟!
عبد الحميد :
ــ لا شيء .. نهضت مسرعا وعدت مرة أخرى للمنزل .. يمكنك أن تخمن أنني عدت
لمقصورتي الملعونة ليلا ... لكن دعك مني ومن المقصورة .. لأنها ولأنني لم يكن لنا
يد في الأمر ... ! .. أزمعت الذهاب إليها ، وإن كنت لا أدري لماذا ، لكنني ذهبت ..
أقحمت نفسي داخلها ، وأمضيت هذه المرة نصف ساعة نائما و ... رأيتني ... أقسم لك أن
هذا ما حدث ، وأنني حين فتحت عينيّ كنت أنظر إلى نفسي في مودة ، وكنت راقدا على
الأرض بينما أقف هناك على باب المقصورة .. هتفت به : من أنت ؟!! .. فقال : ( عبد
الحميد ) .. فأجفلت .. لم يكن هذا هو الـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الذي توقعته
أنت .. لقد كان أنا .. حيا ملموسا مثلي مثلك .. ولشد ما كان يشبهني .. أهو توأمي
؟! .. مستحيل .. أمي لم تنجب إلا واحدا وهو أنا .. أو هو .. أتدري ؟! .. وصل بي
الأمر .. كح .. إلى حد عدم التفريق ، إلى حد التيه ... كنت أشعر بما يشعر به ..
وأسمع ما يفكر فيه .. لم أجد تفسيرا لهذا إلا أنه أنا .. نعم ، بالطبع خدشت نفسي
بمدية كانت معي لأتأكد من أنني لم أكن أحلم .. لا أعرف هل أتكلم عنه بصيغة الـ (
هو ) أم الـ ( أنا ) ؟! .. الغائب أم المتكلم ؟! .. لا أعرف ، ولا أحد يعرف ..
كانني وكنته .. هذا ما أعرفه .. وأعرف أيضا أنني كنت سعيدا أشد السعادة حين جلست
أحدث شخصا أظنه أنا .. يرد عليّ بمثل أفكاري .. وصوتي .. كح ، وتعبيراتي وقسمات
وجهي ... ومثلي .. كح كح كح ...
(4)
هذا الرجل لا يعرف ما يقول .. ( عماد ) يشك في صحة هذا .. لأنه جنون واضح
... إذًا :
ــ أين ذهب .. أعني ، أين ذهبت يا ( عم عبده ) .. ؟!!
ــ أمضينا شهرا نلتقي حتى اختفى ، كان بلا بطاقة ولا إثبات شخصية ، لذا لم
أتابع صفحة الوفيات لأنني أعرف أنه لو مات أو قُتل لن يجدوه ، وإن وجدوه لن يهتموا
، ولن يعلنوا الأمر ... !
يُتبع .....
2 سبتمبر 2013
إياد عصام الزهيري .