الطعنة




(1)


شرفات المنازل ممتلئة بأصحابها 
انوار المصابيح ترسم بأعمدتها خط متعرجاً 

منطفئة ... مضاءة ... منطفئة ... مضاءة ... وهكذا 
القمر قد بدا نوره فى الأرجاء ينثر خيوطاً من الضوء الملوّن ،  أسير واضعاً يدى فى جيبى  الصغير الذى لم ولن يحتوى على 10 جنيهات كاملة  ، فقط هاتفى الخلوىّ ويدى الأخرى ممسكة بذلك السيجار ، الذى يبعث بى إلى عالم ، تلو عالم ، بين الحين والآخر مستمتعاً بأصوات الموسيقى المتنوعة الصادرة من سماعات الأذن الصغيرة خاصتى ، قطع تفكيرى المَبعوث إلى عالم  
... الصَخَبْ رنة الهاتف الخافتة 
إنه صديقى 
آلو  ، اذيك يابنى ، محدش بيسمع صوتك  -
غير كل فين وفين ، ودايماً إتصالك وراه حاجة ..
!خير ياوش السعد ؟ 

انا الحمد لله ، لا أبداً والله انا مش ندل كده يعنى -
انا قلت اسلِّم اصلك واحشنى


لاياراجل .. قول اللى عايزه ع طول ، أنا حافظك -

معلش بقى ، بتقّل عليك ، وانت عارف بقى المشاغل -
معلش كنت عاوز منك خدمة بسيطة


أؤمرنى عنىّ ليك -


 .. أبداً انا كنت عايز -
ها عايز ايه -
آلو .. هيثم .. رد يابنى روحت فين ؟


لم يعقب بعد ولم اسمع اى صوت قد صدر ليقوم بتفسير ماحدث له ،
اغلقت الهاتف ، حاولت الاتصال باحد الاصدقاء الآخرين كى يقوم بمساعدتى

 آلو .. إيه ياحسين ، مابتردش ع طول ليه ، خضتنى
-معلش اصلى كنت نايم ، ولسه صاحى
 طيب -
هيثم كلمنى وانت عارف كالعادة ، بيبقى عايز حاجة
وفجأة التليفون قطع وماسمعتش حاجة بعدها -انا قلقان اوى ......

... طيب اسبقنى انت ع القهوة وانا

آلو .. انت معايا ، انا هسبقك وانت انجز بسرعة حسين -
انت معايا ، رد يابنى  .. حسين


حدث ماحدث لدى هيثم ، كما توقعت وبدون اى تفسيرات واضحة

 (2)


الآن أنا فى المقهى لا يوجد أمامى سوى الذهاب لأحدهم .. هيثم ، او حسين ..

فى تلك اللحظات ذات التفكير المقلق
وصل الى المقهى ، إيهاب ، كيف لم يخطر على بالى ان اتصل به ؟
هممت إليه لاخبره بما حدث ،
حيث انه ذو معلومات واسعة ، وأكثرنا خيالاً
ويَسهُل عليه تخيل الأحداث رغم غموضها ،
يملك نوعاً من العقل نادراً ، أخبرته بكل ماحدث وكعادته مُحب للمغامرات والتشويق 
سكت مدة لا تتجاوز العشر دقائق معاوداً التفكير باحثاً  فى عقله ذو الارشيف المعلوماتى المتين ثم قطع الهدوء فى  
: المكان ، فقد جلسنا فى ركن فى المقهى ، لا يدخله سوانا قال 


بُص احنا مش هينفع نتحرك إلا اما الساعة تعدى 12 -
حاولت الاستفسار ، لكنى امتنعت حيث انه كالعادة ، لا يُفصح عن معلومات قبل اوانها

طيب تمام يعنى قدامنا ساعتين ، مافيش مشاكل ، عشان نعرف نشتغل على نظافة -


صوت لهاتف خلوىّ ، اتضح انه هاتف إيهاب حيث اننا لم نغير النغمة التى وضعناها سوياً من قبل
تلك النغمة التى كنا قد وضعناها جميعاً فى عيد ميلادى الأخير

بدأ إيهاب فى الصراخ :

!انت مين وعايز ايه ؟ -
ثم اغلق الهاتف ، لابُد وان المتصل ، لم يُكمل 


فى ايه يا ايهاب .. خير - 

واحد بيقول إن الساعة 12 مش الوقت المناسب للى ناويين نعمله -

وبعدين -
بس ، قفل السكة فى وشى -



لم نستطع تحديد هوية المتصل من خلال توقعات إيهاب او من صوت المتصل  ، او حتى رقم الهاتف ،
او من الرجوع إلى شبكة علاقاتنا الشبه محدودة . ..

طلب منى إيهاب ان نسرع للذهاب إلى منزل حسين أولاً لا منزل هيثم
وتلك كانت من اسراره الخفية أيضاً 
دقائق معدودة وسنصل إلى منزل حسين 


(3)

أنوار العمارة بالكامل مضاءة ، أصوات النساء تعلو بالولولة  والصراخ الكلاب ازدادت فى النباح بدأ كل منا فى التساؤل ونظر كل منا للآخر لا بد وان حسين قدأصابه مكروهاً ، وهو سبب انقطاع المكالمة ركضنا معاً على السلالم
حتى وصلنا إلى شقة حسين ،مغلقة
لا تبدو عليها أجواء الاضطراب
التى تحوم حولها العمارة باكملها ،
إنها الشقة المجاورة لشقة حسين ، لجاره الذى كانت علاقتنا به محدودةإبراهيم 
 لقد أُصيب بحالة من الهيستريا والذهول ووالدته من البكاء ، يكاد قلبها أن يقف ، سيدة عجوز ، عشش بها آثار امراض الضغط والقلب . والد  إبراهيم قد تُوفِىَ منذ اعوام لكن لحظة مادخل هذا بـ حسين لم يظهر حتى رغم أن الحادث بجواره ، مما زاد من قلقى قمنا بمحاولة معرفة من بالشقة ، لم يرد علينا أحد ، فقد كان يعيش وحيداً بها ، بعدما تُوفى والديه وتشاجر مع اخوته ولم يملك سوى تلك الفخمة الوحيدة فى العمارة ،


قمنا بإقتحام تلك الشقة بهدوء ، دون أن يشعر المجاورون لنا بالارتباك او القلق او الفزع منّا دخلنا وأغلقنا باب الشقة خلفنا ، كى يسهل علينا تفحصها كنا نشاء انرت المصابيح 
إطار ضخم يظهر فيه حسين مع بقية أفراد العائلة ، المدفأة أسفله ، ومن فوقها كتباً متراصة خزانة الملابس بجانبها ،
فقد كان يُحب أن يكون مُلماً بكل ما يحتاجه فى مكان واحد
. ليسهل عليه الخروج بسرعة إن لزم الأمر 
الشقة كما هى ، لا يبدور عليها أياً من ملامح الاضطراب لتدل على وجود اقتحام أو ماشابه ، مما أدى لاختفاء حسين ،  تنقلنا من غرفة لغرفة لا وجود لاى خيط نمسك به ونسير وراءه

.. واتت اللحظة المطلوبة 
بمجرد الضغط على مفتاح الانارة للحمام وجدنا بضع اشياء على الارض منثورة ومتفرقة  

ورقة من المُصحف على الأرض ، بضع قطرات من الحليب مسكوبة ترسم حلقة دائرية )
وبعض آثار الرماد ،  الناتج عن احتراق  شئ ما 
(  .وبقعة دم كبيرة إلى حد ما 


كان ايهاب على علم واسع بعالم السحر والشعوذة كونه مثقفاً من الطراز الرفيع لذا فما يوجد امامنا الآن يدل على بداية رحلة إلى علم السحر  تلك الاشياء هى نوع من القرابين التى يقدمها من يتمنى الدخول الى ذلك العالم اللعين لاصدقائه من الجن والشياطين


هل يعقل ان يكون حسين على مشارف الدخول لهذا العالم اللامنتهى المهلك ، ام ان الجنون قد اصابه ام ان "
 التفكيرالعميق ودوافع الفضول اخذت بساعده للتجربة 
لكنه كان على ثقافة تقل درجة او لا تقل عن ثقافة ايهاب بل وكان اكثرنا التزاما ومعرفة دينية ، بحكم النشأة التى نشأها
" منذ كان صغيراً  عشرون عاما مرت على تلك النشأة لا بد وانه قد تشرّب بتلك التربية  


لايعقل اياً كان الدافع ان يفعل هذا 
كانت تلك تساؤلاتى  التى تدور فى عقلى فى تلك اللحظات وانا شارد الذهن عما حولى
 حتى عدت الى ما نحن فيه وماهو امامنا
 بهزة من ايهاب
: قائلا


ايه رحت فين؟  -

ايه مرتبك كده ليه ؟ -

لا ابدا .. يلاّ بينا من هنا بس -


خرجنا من الحمام بعد فحصه وتجميع المعلومات جيداً وعدنا الى الصالة مرة اخرى احسست بان ملامح الشقة قد تغيرت الاطار لم يعد فوق المدفأة بل اصبح اعلى الكرسى الخشبى ،
ذلك الكرسى الاثرى الذى قد اشتراه والد حسين ،
الكتب مرصوصة فى ارفف منفصلة  ، من الدهشة لم استطع الحديث او حتى ان اسأل ايهاب فقط طلب منى ايهاب الخروج والعودة الى منازلنا وفى الصباح الباكر نتقابل سويا للذهاب إلى منزل هيثم وتفسير لغز اختفاءه هو الآخر



ذهبت الى منزلى وقد ازداد ارهاقى وتعبى ، دخلت للاستحمام ، ظهرت لى صوَّر مصغرة لما رأيته فى حمام
.. شقة حسين بدأت فى الدوار حتى سقطت مغشياً علىّ قُمت مفزوعا فجأة فقد نقلنى أحد أفراد منزلنا إلى سريرى ،
وتلك الصرخة من ذلك الحُلم او الكابوس الذى كاد ان يقضى علىّ حاولت طرد كل تلك الهواجس والاستعداد
لمقابلة ايهاب ، الساعة الآن السابعة صباحاً 

هاتفى يرن إنه ايهاب 


(4)

 اتقفنا على اللقاء عند منزل هيثم ، ذهبت فى الموعد المحدد بالتمام ،
لم اجد ايهاب ازددت ارتباكا وقلقا ، انتظرته ما  يتجاوز النصف ساعة 
ازددت اضطرابا وهممت الدخول الى حديقة المنزل وحدى


 " هيثم كان يسكن فى ذلك المنزل او بالادق "الفيلا
مع جدته او هى من اتت للعيش معه لا اتذكر
 لا حراس ... لا كلاب .. لا عُمَّال ، او خدم او جناينى 
فقط المبنى الفخم والحديقة المُبهجة وقاطنى المنزل


 بالفعل قمت بالدخول ، ديكور وهيئة المنزل الداخلية
تشبه الى حد ما تفاصيل شقة حسين ،  لا يهم ،


ماهذا ، جدة هيثم محترقة النصف السفلى رجليها حتى خصرها قد تم تحوله الى رماد
ومن اعلى الخصر حتى الوجه مشوه جدا

حددت بعض ملامحها التى اعلمتنى انها هى لكن ماتفسير ماحدث؟

لابد وان ماحدث هو حادث احتراق ذاتى ، فحسب معلوماتى ان تلك الظاهرة تحدث للسيدات المسنين اللاتى يكثر ان يتواجدن وحيدات فى منازلهن حيث ان هيثم كان دائما ما يتركها وحيدة لا بد وانها قد اصيبت ،


لحظات وبدأت بعض الاصوات تلوح فى المنزل شعاع ابيض مضمحل يسير تجاهى لا تبدو عليه الملامح بوضوح
لكنه يشبه تلك السيدة التى لقيت حتفها منذ قليل 

لا ، لا املك ذلك القلب الذى يستطيع تحمل كل ما اراه ، مرة اخرى فقدت وعيى من الصدمة "
  حمدا لله ان قلبى لم يقف


افقت بعد فترة لم اعرفها  لكننى بدأت فى استعادة قواى الجسدية والعقلية
وتذكر كل ماحدث بدأت فى تفقد بقية الشقة


إنه هيثم 
فى المطبخ راقداً على الأرض لا تبدو عليه اى من الاصابات الخارجية او ماشابه هل هو فاقد الوعى ام انه قد مات حاولت متابعة النبض لا استطيع القول انه قد مات او انه فاقد الوعى

اخرجت هاتفى الخلوىّ خارجا من المطبخ اسير فى الممر لاتصل
بــايهاب ليساعدنى فى حل تلك المعضلة ، لا يرد على هاتفى 


بينما انا سائر اذ رأيت شيئاً ما يلمع فى الغرفة التى امامى ، استرعى انتباهى دخلت الغرفة فاذا به حسين فعلت كما
فعلت مع هيثم ، لا فائدة لا استطيع التحقق وها قد وصل إيهاب تفقد المكان

هنا... هناك ...هنا.... هنا



 قام بتحليل الموقف حسب معلوماته المتنوعة والكثيرة وفجأة اذا بشئ على رأسى افقدنى الوعى للمرة الثالثة ،
. لابد وان احدهم قام بالهجوم علىّ من الخلف 

(5)

 المكان مظلم بشدة ، بالكاد استطيع ان ارى ،
عيناى فى حالة من الارهاق بعد حالة فقدان الوعى الثالثة حاولت النهوض والتفقد ،
.. ربما احصل على شئ او اجد اى شئ

لم اصل لشئ فقط حاولت الهروب لمكان اكثر امانا للتفكير 
... خرجت الى الشارع الرئيسى ، الاشجار متراصة بانتظام الهواء يجذب الروح

لا بشر...  لا سيارات ... لاشئ   

: جلست على رصيف الشارع سانداً ظهرى على الشجرة ، محاولا التفكير

الاشياء الغريبة فى منزل حسين
رؤيتها مجددا فى منزلنا 
جدة هيثم المحترقة 
فقدانى الوعى للمرة الثالثة على التوالى 
والاهم اختفاء وانقطاع مكالماتى مع حسين ، هيثم 
الصدمة الخلفية على رأسى 

... ولكن اين ايهاب ، اين ذهب 

ما هذا إنه هاتف إيهاب مالذى اتى به الى هنا الهاتف يرن ، ترددت فى الرد على المكالمة
 : لكن قمت بفتح الخط وسماع ما يقال 

" ايه يابنى خِلْصتْ من البنى آدم ده ولا لسه "

ماهذا إنه هيثم ، انا اعرف صوته جيداً لكن من ذلك " البنى آدم " المذكور هنا 
لا بد وانه انا 

هيثم حى ، إيهاب اختفى فجأة "
 حسين لا اعرف مكانه  لا بد وانها لعبة المعلومات والافعال التى كان يمليها علىّ إيهاب
 لا بد وانه من ترتيبه لعل شئ ما غفلت عن المكالمة مفكرا فى كل ذلك ولم اسمع ما قيل فى تلك الفترة استعدت

: انتباهى مرة اخرى بسرعة : وسمعته يختتم الحديث قائلا


 خلّص بسرعة وكلمنى "
الفلوس هتوصل بكرة ولازم نستلمها ونخلص ،
 مع السلامة حاول تكلمنى ، وابقى خلى بالك من تليفونك





هذا آخر ما سمعت ،  لحظة لقد قال ان بعض الاموال ستصل غداً
.. طرف الخيط قد أُدلىّ إلىّ لامسكه الآن

حاولت فرض الفروض الاكثر صحة فى بالى والد هيثم كانت له مبالغ طائلة فى الخارج كنت اعرف ذلك
فقد تم إخبارى من قَبَلهْ وطلب منى الاحتفاظ بذلك السر
فقد كنت ابنه بالتبنى بعد وفاة والدى عاملنى كأبنه تماما وكان يحبنى كثيراً 
وكان هيثم يغار الى حد ما منى 



إذا لا بد وانه علم بذلك الامر واراد الحصول على المال وحده لكن
ما سر الذى رأيت من اشباح وما شابه لا بد وانه إيهاب



 لا توجد أدله كافية حتى الآن
على طرد تلك التخيلات حتى اعمل على الواقع الذى امامى  


الهاتف يرّن مرة اخرى ،
إنه حسين فتحت الخط مرة اخرى 

إيه يابنى ،هنعمل إيه فى البلوة دى "
الله يلعن الفلوس يا اخى ، اللى حصل للواد إبراهيم جارنا ،
الواد اتصرع من اللى شافه وكده هنتكشف
 " وجدة هيثم ، الله يخربيت دماغك يا اخى 


أغلقت الهاتف بسرعة

 شهيق ... زفير ...  شهيق ...  زفير...  شهيق ... زفير
بسرعة فائقة 

.. ضربات قلبى بدأت فى الاسراع

: واكتملت الدائرة المعتمدة على توقعاتى وافتراضاتى 


هيثم يريد الحصول على مال ابيه من دونى ، لان نصيبى كبير جداً كما كنت اعرف "..
وقام بالطبع بالاتفاق مع إيهاب  و حسين للقضاء علىّ وإيقاعى فى فخ ما 

إيهاب متمكن ولديه ثقافة واسعة فى عالم السحر والشعوذة ،
لا بد وانه نفذ كل تلك الخدع ماعدا احتراق جدة هيثم ،
لابُد وان الحظ لعب دوره ، ام انه النحس 
هذه الظاهرة تلقائية تحدث بدون تدخل 

إيهاب أتى بى إلى ذلك المكان للخلاص منى ،
لكن لماذا تركنى هنا وذهب لماذا لم يقضى علىّ مرة واحدة بعدما اختطفنى
... ماسر هاتفه 




حاولت الذهاب إلى منزله والمكوث لمراقبته مر اليوم كاملاً ومن وراءه نصف اليوم الآخر ،
لم يظهر بعد 

حتى حسين وهيثم لم يتوقفا عن الرنين على هاتفه
 لا بد وانهم لم يعثروا عليه ايضاً فى تلك الاثناء لابد وان الاموال قد وصلت وحان وقت استلامها
 لا بد وانه قد انقلب السحر على الساحر 
لقد اختفى ايهاب هل قُتل من قِبَل الشيطان هيثم ،
ليكون التقسيم اقل ما يكون ..
وإن كان الامر كذلك فلماذا يتصل عليه 
هل لانه اكتشف أنى بدأت فى معرفة الأمر ،
فأراد تكملة الدائرة الشائكة والتستر على قتله لــإيهاب ؟
، فهو العوبان شيطانى التفكير


 لا اعلم 

لا اعلم 

. لا اعلم 
 يتبع  ... 

  عبدالله فرحات  .. 10 يوليو 2013

النداء ( 2 )

(5)

تحكيه : ( محروسة )
*
تقول :
سعيدة لأنني أموت .. الحق أن الحياة تبدو تافهة حين تنظر إليها من أعلى .. صغيرة صاغرة .. قبيحة كأقبح ما يكون .. وأقصر من أن يحياها المرء في سلام ... هي جنازة يتصارع السائرون فيها على الوصول إلى النهاية أولا .. !
*
محروسة :
ــ مات أبي ، ككل أسرة فقيرة من ستة أفراد ، طبعا كانت أمي صارمة لا تعرف شيئا ، بل لا تهتم أساسا ، بأحلامنا الطفلة الصغيرة ، فعملت أخواتي الثلاث خادمات ، وكان مقدرًا لي أن أبقى مع أمي ، بحكم سني الصغير ، لأعمل معها في الحياكة .. نكسب جنيهان في اليوم و ... المهم ، كنت أختلف عن أي طفل تعرفه أنت .. ليس لأسباب محددة .. مجرد نفحات غريبة من عالم أقل ما يمكن أن نسميه به : " آخر " .. ( تنهيدة صادقة طويلة ) ... مشكلتي أنني أمضيت حياتا تمتلئ بالمشاكل ، وبدَأتْ أولها بمولدي .. كنت أنا في حد ذاتي مشكلة ، عبئا على عاتقين وصلا منذ يوم مولدي إلى مرحلة الكهول .. كح ..
 كنا نفرغ للنوم فقط .. لم يكن هناك وقت لهذه التفاهة .. للطفولة .. ( بنظرة من ( عماد ) أدركت أن عليها أن تختصر ) .. المهم هنا هو أنني كنت أترك المنزل في الليل ، وأذهب للساقية .. قلت لك ، لم أكن كأي طفلة .. كنت سادية مع نفسي .. أجلس في مكان لا يكون لي فيه حائط ، ولا جدار يشعرني بالأمان .. ينتفض جسدي حالما أشعر بنسمة هواء عابرة ، فأقفز ناظرة للخلف في ذعر ، ثم أجلس كما كنت مرة أخرى .. أنت تعرف خيال الأطفال .. لكن ما أرويه لك ليس خيالا ؛ كان حقيقيًّا صارخًا في وجهي كالحقيقة ذاتها .. كحياتي البائسة هذه ..
لقد أدركت جيدًا أنني كنت أعذب نفسي بدافع ما .. كنت أمقت هذا .. كنت أكرهه .. لكنني على الرغم من كل شيء ، كنت أعود ...
طق .. طق .. تييييييييييييييك ....
الباب يطقطق ويصرصر .. كأنه يحثني على البقاء ..
ــ أرجوكِ لا ترحلي .. ابقي هنا أرجوكِ
كانت هذه أنا .. لكنني ( أو لكنها ، لا أعرف حقًا ) قررت الذهاب .. حسنٌ .. لا أعرف إن كنت مريضة بفصام أو بازدواج شخصية ، لكنني أعرف أن فاصلا ما ينشأ بين الشخصيتين ، فلا تتخاطبا أبدًا .. لكن الملعونة نالت مني ، وتمكنت تمامًا من عقلي .. كنت أعرف بوجودها ، شعرت بي وبها داخلي .. كانت تلهو بي .. وعليك أن تصدق وإلا فلا تسمع من الآن ... !

عماد :
ــ أنا لا أستطيع أن أحدد موقفًا قبل سماع القصة كاملة .. أكملي أرجوكِ ، لكن رجاءً اختصري ..

محروسة :
ــ حسنٌ .. أمضيت أسبوعًا على هذا الحال المقيت حتى عرفت أمي .. والويل كل الويل الآن .. بعد علقة من خرطوم اعتادت أن تجلدنا به ، استمرت بين مكذّب ومصدّق ، ورأت أن سحق طفولتنا بخرطومها اللعين قد يكون نوعًا من الاحتياط .. في النهاية فشلت في منعي .. واستطعت أن أذهب مرة أو مرتين ..
 هاهي أمي تنظر لطفلة من أطفالها تترك المنزل على أطراف أصابعها ، والفجر يبسط لونًا رماديًا على الوجود .. رأت طفلتها تتسلل كي تذهب للساقية ، وتجلس وحيدة جوارها ، رأتها تتأوّه ، وتبكي ، وتنادي أشخاصًا ، وتكلم أشخاصًا ليسوا موجودين .. !
وتبقى هكذا فترة ، حتى يؤذن مؤذن ذو صوت شديد القبح ، فتهرع الطفلة إلى المنزل كأن شيئًا لم يكن ، كأنها مغيّبة غائبة عن عالمنا هذا ..
هب لك أن تتخيل عدد النصابين والدجالين اللذين قررت أمي أن تعتمد عليهم .. يطلبون أشياءً مثل عين العنكبوت ، وأحشاء الفأر ، وأمي تصدق ، كل ما فعلته أمي هو أنها كانت تصدق الناس في أطفالها ، ولم تصدق ـ بل لم تنصت حتى ـ لأطفالها أبدًا .... الخلاصة أنها كانت تحاول منعي بأي شكل من الأشكال .. كي لا أؤثر على العمل ، على ما نكسبه .. !! ، لن يتهم أحد أمي بحب أطفالها .. مستحيل ، وإلا فهو مخبول ، أو كاذب ، أو منافق ... !
القصة تبدأ من هنا .. ليلتان محتجزة في الدار .. لا سبيل للهرب من هذا الخفير الذي أحضَرَتْهُ ، أظن أن هذا هو عمله فعلا : منع أمثالي من الهرب .. ! .. لك أن تتخيل ما كان يحدث كل ليلة ، صراع طويل للهروب ، صراخ ، لكن لا ، نالوا مني بسهولة ..
لم أجد حلا في النهاية إلا أن أنادي أصدقائي .. نعم ، أصدقائي اللذين يسكنون قرب الساقية .. أغراب لا دخل لهم بحياتنا ، لكنهم صاروا أصدقائي ببساطة .. في الواقع شعرت معهم بشيء من الدفء والطمأنينة ، وكانوا يحبون أن يخيفوني ثم يضحكون .. كانوا قبيحي الوجه ، لكنني أحببتهم ..
حالما ناديت اسمًا واحدًا أو اثنين هرعت أمي تمسك الخرطوم لتجلدني به ، حاول الخفير منعها ، لذا أظنني ممتنة له كثيرًأ .. وها نحن نصل لمشهد النهاية ، في الصباح ، أيقنت أمي أنه لا سبيل لمنعي ، عاجلا أو آجلا سأرحل ، بإرادتها أو بدونها سأرحل .. وربما لا أعود ، فكانت أرقّ تعاملا معي ـ عدم التحدث نهائيًّا ، وعدم الاهتمام بما أقول ، هو أرق ما قد تصل إليه أمي ! ـ .. لذا كان سهلا أن أخطف السكين من فوق المنضدة وأن أقترب منها ، وأن أقول لها " وداعًا " ، وأن يكون السكين في صدرها حالما تحاول الكلام ... !!
أنا قتلت أمي ، لكن الملعونة ، التي تتقاسم روحي معي ، قتلت إخوتي .. لم أكن أريد هذا ، كانت تسيطر عليّ وتتحكم في أفكاري وأفعالي .. لذا .. كح ، كح  .. لذا قتلت عائلتي كلها ... ( تبكي بحرارة ) .. لا ، ابقَ .. أقول لك أنني لم أكن أدري ما أفعل ، لا تخف أنا لست قاتلة مخبولة .. أنا فقط .. أنا فقط لا أعرف من أنا .. لقد أمضيت حياتي كلها أحاول إقناع الناس بأنني قتلتهم جميعًا ، لكنهم لم يصدقوا ..
من هذه الطفلة التي تقتل أمها وأخواتها ؟!! .. لم يصدقوا ، وأمضيت حياتي مقذوفة بالطوب ، ينادونني بـ" المجنونة " ، ويسخرون مني .. لقد عانيت .. عانيت أكثر من أي أحد ، ولن أجد فرقًا لو أبلغت عني الآن .. لأنهم لن يصدقوا ، بل ربما يتهموك بالجنون معي .. !

عماد :
ــ ....................................

*
(6)
*

خرج بطلنا الدكتور من الغرفة محطمًا .. لقد آذته تلك الملعونة .. ولن ينسى ما قالته أبدًا .. لقد قتلت عائلتها كلها ، في كلتا الحالتين تبقى مجنونة .. وسينادونها " مجنونة " إلى الأبد .. يراها تستحق ...
سيرحل من هنا ، عليه أن يرحل وإلا سيجن جنونه .. عليه أن يهرب من هذا الجحيم .. يشم هواءً طلقًا جديدًا ، بعيدًا عن أنفاس العجوز المحملة بالقتل ، والـ .. الماذا ؟! .. لا يعرف ، عليه فقط أن يبتعد ... لا تدخن ، إنك في حال يرثى له وهذا لا يسمح بالتدخين قط .. اهدأ الآن .. اذهب إلى منزل ( حمدي ) صديقك ولسوف تكون الأمور على ما يرام ....

*
ــ ( حمدي ) ليس هنا .. تفضل ...
ــ ومتى يعود ؟!
ــ لا أعرف لكنه قال أنه لن يتأخر ..
ــ هل يمكنني انتظاره هنا ؟

*
ــ أهلااااااااااااااااااااااان ( عماااد ) .. لقد أصبحت طبيبًا ونسيتنا يا رجل ..
ــ كيف حالك ؟
ــ الحمد لله .. تعال .. يبدو أن لديك ما تقوله ..
يتنهد في ملل ..
ــ نعم لديّ .. هل ندخل ؟!
ــ نعم ، اعذرني .. تفضل ...
في الداخل :
ــ " بت يا ( سعاد ) .. " .. الشاي ..
يقول طبيبنا الحزين :
ــ ( حمدي ) .. عليك أن تعرف هذا ، لقد.....
هاهو يروي في غير استمتاع ، و( حمدي ) يصغي جيدًا .. يرشف رشفتين من الشاي .. يبتسم .. يقضب حاجبيه .. يبعد الذباب عن وجهه .. يبتسم .. يمسك ذقنه متظاهرًا بتحليل الموقف ... يفعل كل ما يمكن فعله أثناء سماع شخص ما و ... يبتسم ... ثم يقول بلهجة يحاول أن يجعلها غامضة :
ــ أنا أعرف هذه المرأة .. نعم ... لقد رأيتها في المنام ..
ــ ( حمدي ) لا تمزح .. دعك من تفاهاتك وقل لي ، هل تعرفها حقًّا ؟!
ــ أقول لك رأيتها في المنام ..
ــ ..........................
ــ سأثبت لك ... اليوم نذهب وأريك دارها .. إنه مكان يخشى الناس الاقتراب منه كثيرًا .. قلت لي ما اسمها ؟!
ــ ( محروسة السيّد علي ) ...
ــ حسنٌ .. في السابعة نلتقي عند الساقية ...

*
السابعة مساءً ..
هاهو ( حمدي ) ببطنه العظيم .. هذا التضخم لا يُنتَج بواسطة ما يأكله البشر العاديون .. ولذا بدا وجهه ضخمًا تحت ضوء عمود النور العجوز .. بأنف كادت أن تخفيه الخدود ، وساقين قصيرتين فلا يبدو تمامًا أنه يمشي ، بل يهم بجهد عظيم .. هذا هو ( حمدي ) .. نعم ، كثير الكلام ، بل ربما فاق ( أم حسين ) التي تحدثنا عنها سابقًا .. ما تكاد تعرفه حتى يبوح لك بكل أسراره وخفاياه .. وهذا ما يربطه بك إلى الأبد بلا فكاك ، لأنك أصبحت تحمل أسرارًا تماثله حجمًا الآن ... !
هب لك أن تتخيل المنظر .. بقايا منزل هنا وهناك وفي كل مكان .. خشب وأشياءٌ أخرى ..  الساقية تتحرك ببطء وملل .. تهدر عاليًا كأنها تنادي الموتى والأحياء .. تذكرهم بأسمائهم الأولى ..
ــ يا أنت .. تعال لبِّ النداء .. لستُ النداهة فلا تَخَفْ .. لستُ ممن اعتادت جدتك أن تحكي عنهم .. أنا أنت .. فلبِّ النداء ..
ارتجف ( عماد ) من هول الفكرة .. هذه الساقية حية بلا شك .. ! ..
نظر له ( حمدي ) في تشفٍّ كأنه يسمع ما يفكر فيه ..
ــ ماذا بك ؟!
ــ لاشيء .. أين المنزل ؟! ...
ــ هنا ..
يفتح ( عماد ) فاهُ في غباء ..
ــ هنا ؟!! .. تركتني هنا وحدي ؟! .. ماذا بك ؟! .. هل جننت ؟!
يرفع ( حمدي ) حاجبيه .. إنه يمثل بلا شك :
ــ وماذا كنت تريد ؟ حسبتك لا تصدق هذه الأشياء .. ! .. لا يخاف من لا يصدق ..
ــ أُفْ .. وهل أزالوه ؟!
ــ نعم ، منذ فترة لا بأس بها ..
ويأتي السؤال الجيد :
ــ قل لي .. كيف عرفت أن هذا المكان بالتحديد هو ما كان سابقًا منزلها ؟! بل كيف عرفت العجوز نفسها أصلا ؟!!
يهز رأسه في فخر :
ــ أنا ممن يحبون هذه الأشياء .. هادم أساطير ، لكنني لست محترفًا ، ما زلت مبتدئًا بعد .. لذا كنت أسعى منذ فترة وراء العجوز .. وها أنت وجدتها ..
ــ ولماذا جئنا إلى هنا ؟!
ــ لأحكي لك ..
ــ تحكي لي ماذا ؟!
ــ أحكي لك ما حدث .. ما بك يا ( عماد ) ؟!!
ــ لكنها .. أ .. ابدأ إذًا ..

*
 (7)
يحكيه ( حمدي )
*
ــ رقيقة بطبعها .. حالمة كالوجود .. ساحرة ساهرة حتى الصباح ..
 تحتاج الثمرة إلى من يقطفها .. لكن هذه الثمرة ، تلك الفتاة ، لم تحظ بمن يقطفها أبدًا ..

*
حمدي :
ــ يقولون أنها كانت بارعة الحسن والجمال .. تمشي على القمح فلا تكسر له عودًا .. في أي قصة درامية يلزم وجود زوجة أب سيئة .. لكن للأسف أخذت أمها هذا الدور .. لم تظلمها وحدها ، بل ظلمتها هي وأخواتها الثلاث .. هنا يمكننا أم نقول أنها كانت أمًا منصفة في ظلمها لهم ..
عاشت الفتاة حياة بائسة بحق .. و...

عماد :
ــ ألا تختصر قليلا ؟!!

حمدي ( كأنه لم يسمع ) :
ــ لا تقاطعني .. هربت أخواتها الثلاث إلى القاهرة .. كنَّ جميعًا متقاربات في السن .. واحدة في العشرين وأخرى أقل قليلا .. والثالثة في السابعة عشر تقريبًا ...

عماد :
ــ اختصر أرجوك ..

حمدي :
ــ  حسنٌ .. بقيت الفتاة الصغيرة ، مع أمها .. أنت تعرف الأطفال ، لقد رفضت ببساطة أن تترك أمها لأنها .. أمها .. في النهاية هي طفلة يتيمة الأب .. ولا حاجة لها بفقدان الأم أيضًا .. سرعان ما ستعرف الفتاة أنه كان عليها أن تهرب .. أن ترحل بعيدًا ، لأن أمها ستسحق طفولتها عاجلا أو آجلا ... هذا ما يقولونه عنها ..
سأحكي لك جزءًا لا يعرفه أحد .. جزءًا اكتشفته بنفسي مؤخرًا .. لقد كانت الفتاة ملعونة .. تذهب مرغمةً وتجلس هنا حيث أنت تمامًا .. نعم ، ابتعد عن هذا المكان كي لا تصاب باللعنة .. نياهاهاهع .. المهم .. تجلس هنا وتنادي أشخاصًا غامضين .. أسماء أولى فقط .. ويأتون بالفعل .. مرة تجدها تبكي .. ومرة تبتسم .. ومرة تضحك بصوت عالٍ .. ومرة أخرى ، وربما كانت هذه الأخيرة ، تهرع خلف  أحد أولئك اللذين تناديهم .. تصرخ :
" لا أرجوك .. لا تقتلهم .. " ، ويبدو أن هذا المسخ يرفض فسقطت في مكانها تبكي ، وتبكي .. حتى جاء النهار وحتى وجدوها في دارها ملطخة بالدماء .. حية لكن على مشارف الموت .. وطبعًا لم يصدقوا شيئًا مما قالته ..

عماد :
ــ ماذ تقول ؟! .. لقد حكت لي العجوز شيئًا مختلفًا تمامًا ..

حمدي :
ــ الفتاة لم يكن اسمها ( محروسة ) .. كان اسمها ( فوزية ) ..

عماد :
ــ ومن أين عرفت أنت ؟!!

حمدي :
ــ حسنٌ .. عليَّ أن أعترف .. لقد حكتها لي جدتي من قبل ... وأقول لك : لقد كانت العجوز تهذي .. 

عماد :
ــ عدنا لتخريف الجدات ... قم بنا نرحل .. عليك اللعنة لا أعرف كيف قبلت هذا ...

يُتبع .....

3 سبتمبر 2013



إياد عصام الزهيري .