النداء ( 2 )

(5)

تحكيه : ( محروسة )
*
تقول :
سعيدة لأنني أموت .. الحق أن الحياة تبدو تافهة حين تنظر إليها من أعلى .. صغيرة صاغرة .. قبيحة كأقبح ما يكون .. وأقصر من أن يحياها المرء في سلام ... هي جنازة يتصارع السائرون فيها على الوصول إلى النهاية أولا .. !
*
محروسة :
ــ مات أبي ، ككل أسرة فقيرة من ستة أفراد ، طبعا كانت أمي صارمة لا تعرف شيئا ، بل لا تهتم أساسا ، بأحلامنا الطفلة الصغيرة ، فعملت أخواتي الثلاث خادمات ، وكان مقدرًا لي أن أبقى مع أمي ، بحكم سني الصغير ، لأعمل معها في الحياكة .. نكسب جنيهان في اليوم و ... المهم ، كنت أختلف عن أي طفل تعرفه أنت .. ليس لأسباب محددة .. مجرد نفحات غريبة من عالم أقل ما يمكن أن نسميه به : " آخر " .. ( تنهيدة صادقة طويلة ) ... مشكلتي أنني أمضيت حياتا تمتلئ بالمشاكل ، وبدَأتْ أولها بمولدي .. كنت أنا في حد ذاتي مشكلة ، عبئا على عاتقين وصلا منذ يوم مولدي إلى مرحلة الكهول .. كح ..
 كنا نفرغ للنوم فقط .. لم يكن هناك وقت لهذه التفاهة .. للطفولة .. ( بنظرة من ( عماد ) أدركت أن عليها أن تختصر ) .. المهم هنا هو أنني كنت أترك المنزل في الليل ، وأذهب للساقية .. قلت لك ، لم أكن كأي طفلة .. كنت سادية مع نفسي .. أجلس في مكان لا يكون لي فيه حائط ، ولا جدار يشعرني بالأمان .. ينتفض جسدي حالما أشعر بنسمة هواء عابرة ، فأقفز ناظرة للخلف في ذعر ، ثم أجلس كما كنت مرة أخرى .. أنت تعرف خيال الأطفال .. لكن ما أرويه لك ليس خيالا ؛ كان حقيقيًّا صارخًا في وجهي كالحقيقة ذاتها .. كحياتي البائسة هذه ..
لقد أدركت جيدًا أنني كنت أعذب نفسي بدافع ما .. كنت أمقت هذا .. كنت أكرهه .. لكنني على الرغم من كل شيء ، كنت أعود ...
طق .. طق .. تييييييييييييييك ....
الباب يطقطق ويصرصر .. كأنه يحثني على البقاء ..
ــ أرجوكِ لا ترحلي .. ابقي هنا أرجوكِ
كانت هذه أنا .. لكنني ( أو لكنها ، لا أعرف حقًا ) قررت الذهاب .. حسنٌ .. لا أعرف إن كنت مريضة بفصام أو بازدواج شخصية ، لكنني أعرف أن فاصلا ما ينشأ بين الشخصيتين ، فلا تتخاطبا أبدًا .. لكن الملعونة نالت مني ، وتمكنت تمامًا من عقلي .. كنت أعرف بوجودها ، شعرت بي وبها داخلي .. كانت تلهو بي .. وعليك أن تصدق وإلا فلا تسمع من الآن ... !

عماد :
ــ أنا لا أستطيع أن أحدد موقفًا قبل سماع القصة كاملة .. أكملي أرجوكِ ، لكن رجاءً اختصري ..

محروسة :
ــ حسنٌ .. أمضيت أسبوعًا على هذا الحال المقيت حتى عرفت أمي .. والويل كل الويل الآن .. بعد علقة من خرطوم اعتادت أن تجلدنا به ، استمرت بين مكذّب ومصدّق ، ورأت أن سحق طفولتنا بخرطومها اللعين قد يكون نوعًا من الاحتياط .. في النهاية فشلت في منعي .. واستطعت أن أذهب مرة أو مرتين ..
 هاهي أمي تنظر لطفلة من أطفالها تترك المنزل على أطراف أصابعها ، والفجر يبسط لونًا رماديًا على الوجود .. رأت طفلتها تتسلل كي تذهب للساقية ، وتجلس وحيدة جوارها ، رأتها تتأوّه ، وتبكي ، وتنادي أشخاصًا ، وتكلم أشخاصًا ليسوا موجودين .. !
وتبقى هكذا فترة ، حتى يؤذن مؤذن ذو صوت شديد القبح ، فتهرع الطفلة إلى المنزل كأن شيئًا لم يكن ، كأنها مغيّبة غائبة عن عالمنا هذا ..
هب لك أن تتخيل عدد النصابين والدجالين اللذين قررت أمي أن تعتمد عليهم .. يطلبون أشياءً مثل عين العنكبوت ، وأحشاء الفأر ، وأمي تصدق ، كل ما فعلته أمي هو أنها كانت تصدق الناس في أطفالها ، ولم تصدق ـ بل لم تنصت حتى ـ لأطفالها أبدًا .... الخلاصة أنها كانت تحاول منعي بأي شكل من الأشكال .. كي لا أؤثر على العمل ، على ما نكسبه .. !! ، لن يتهم أحد أمي بحب أطفالها .. مستحيل ، وإلا فهو مخبول ، أو كاذب ، أو منافق ... !
القصة تبدأ من هنا .. ليلتان محتجزة في الدار .. لا سبيل للهرب من هذا الخفير الذي أحضَرَتْهُ ، أظن أن هذا هو عمله فعلا : منع أمثالي من الهرب .. ! .. لك أن تتخيل ما كان يحدث كل ليلة ، صراع طويل للهروب ، صراخ ، لكن لا ، نالوا مني بسهولة ..
لم أجد حلا في النهاية إلا أن أنادي أصدقائي .. نعم ، أصدقائي اللذين يسكنون قرب الساقية .. أغراب لا دخل لهم بحياتنا ، لكنهم صاروا أصدقائي ببساطة .. في الواقع شعرت معهم بشيء من الدفء والطمأنينة ، وكانوا يحبون أن يخيفوني ثم يضحكون .. كانوا قبيحي الوجه ، لكنني أحببتهم ..
حالما ناديت اسمًا واحدًا أو اثنين هرعت أمي تمسك الخرطوم لتجلدني به ، حاول الخفير منعها ، لذا أظنني ممتنة له كثيرًأ .. وها نحن نصل لمشهد النهاية ، في الصباح ، أيقنت أمي أنه لا سبيل لمنعي ، عاجلا أو آجلا سأرحل ، بإرادتها أو بدونها سأرحل .. وربما لا أعود ، فكانت أرقّ تعاملا معي ـ عدم التحدث نهائيًّا ، وعدم الاهتمام بما أقول ، هو أرق ما قد تصل إليه أمي ! ـ .. لذا كان سهلا أن أخطف السكين من فوق المنضدة وأن أقترب منها ، وأن أقول لها " وداعًا " ، وأن يكون السكين في صدرها حالما تحاول الكلام ... !!
أنا قتلت أمي ، لكن الملعونة ، التي تتقاسم روحي معي ، قتلت إخوتي .. لم أكن أريد هذا ، كانت تسيطر عليّ وتتحكم في أفكاري وأفعالي .. لذا .. كح ، كح  .. لذا قتلت عائلتي كلها ... ( تبكي بحرارة ) .. لا ، ابقَ .. أقول لك أنني لم أكن أدري ما أفعل ، لا تخف أنا لست قاتلة مخبولة .. أنا فقط .. أنا فقط لا أعرف من أنا .. لقد أمضيت حياتي كلها أحاول إقناع الناس بأنني قتلتهم جميعًا ، لكنهم لم يصدقوا ..
من هذه الطفلة التي تقتل أمها وأخواتها ؟!! .. لم يصدقوا ، وأمضيت حياتي مقذوفة بالطوب ، ينادونني بـ" المجنونة " ، ويسخرون مني .. لقد عانيت .. عانيت أكثر من أي أحد ، ولن أجد فرقًا لو أبلغت عني الآن .. لأنهم لن يصدقوا ، بل ربما يتهموك بالجنون معي .. !

عماد :
ــ ....................................

*
(6)
*

خرج بطلنا الدكتور من الغرفة محطمًا .. لقد آذته تلك الملعونة .. ولن ينسى ما قالته أبدًا .. لقد قتلت عائلتها كلها ، في كلتا الحالتين تبقى مجنونة .. وسينادونها " مجنونة " إلى الأبد .. يراها تستحق ...
سيرحل من هنا ، عليه أن يرحل وإلا سيجن جنونه .. عليه أن يهرب من هذا الجحيم .. يشم هواءً طلقًا جديدًا ، بعيدًا عن أنفاس العجوز المحملة بالقتل ، والـ .. الماذا ؟! .. لا يعرف ، عليه فقط أن يبتعد ... لا تدخن ، إنك في حال يرثى له وهذا لا يسمح بالتدخين قط .. اهدأ الآن .. اذهب إلى منزل ( حمدي ) صديقك ولسوف تكون الأمور على ما يرام ....

*
ــ ( حمدي ) ليس هنا .. تفضل ...
ــ ومتى يعود ؟!
ــ لا أعرف لكنه قال أنه لن يتأخر ..
ــ هل يمكنني انتظاره هنا ؟

*
ــ أهلااااااااااااااااااااااان ( عماااد ) .. لقد أصبحت طبيبًا ونسيتنا يا رجل ..
ــ كيف حالك ؟
ــ الحمد لله .. تعال .. يبدو أن لديك ما تقوله ..
يتنهد في ملل ..
ــ نعم لديّ .. هل ندخل ؟!
ــ نعم ، اعذرني .. تفضل ...
في الداخل :
ــ " بت يا ( سعاد ) .. " .. الشاي ..
يقول طبيبنا الحزين :
ــ ( حمدي ) .. عليك أن تعرف هذا ، لقد.....
هاهو يروي في غير استمتاع ، و( حمدي ) يصغي جيدًا .. يرشف رشفتين من الشاي .. يبتسم .. يقضب حاجبيه .. يبعد الذباب عن وجهه .. يبتسم .. يمسك ذقنه متظاهرًا بتحليل الموقف ... يفعل كل ما يمكن فعله أثناء سماع شخص ما و ... يبتسم ... ثم يقول بلهجة يحاول أن يجعلها غامضة :
ــ أنا أعرف هذه المرأة .. نعم ... لقد رأيتها في المنام ..
ــ ( حمدي ) لا تمزح .. دعك من تفاهاتك وقل لي ، هل تعرفها حقًّا ؟!
ــ أقول لك رأيتها في المنام ..
ــ ..........................
ــ سأثبت لك ... اليوم نذهب وأريك دارها .. إنه مكان يخشى الناس الاقتراب منه كثيرًا .. قلت لي ما اسمها ؟!
ــ ( محروسة السيّد علي ) ...
ــ حسنٌ .. في السابعة نلتقي عند الساقية ...

*
السابعة مساءً ..
هاهو ( حمدي ) ببطنه العظيم .. هذا التضخم لا يُنتَج بواسطة ما يأكله البشر العاديون .. ولذا بدا وجهه ضخمًا تحت ضوء عمود النور العجوز .. بأنف كادت أن تخفيه الخدود ، وساقين قصيرتين فلا يبدو تمامًا أنه يمشي ، بل يهم بجهد عظيم .. هذا هو ( حمدي ) .. نعم ، كثير الكلام ، بل ربما فاق ( أم حسين ) التي تحدثنا عنها سابقًا .. ما تكاد تعرفه حتى يبوح لك بكل أسراره وخفاياه .. وهذا ما يربطه بك إلى الأبد بلا فكاك ، لأنك أصبحت تحمل أسرارًا تماثله حجمًا الآن ... !
هب لك أن تتخيل المنظر .. بقايا منزل هنا وهناك وفي كل مكان .. خشب وأشياءٌ أخرى ..  الساقية تتحرك ببطء وملل .. تهدر عاليًا كأنها تنادي الموتى والأحياء .. تذكرهم بأسمائهم الأولى ..
ــ يا أنت .. تعال لبِّ النداء .. لستُ النداهة فلا تَخَفْ .. لستُ ممن اعتادت جدتك أن تحكي عنهم .. أنا أنت .. فلبِّ النداء ..
ارتجف ( عماد ) من هول الفكرة .. هذه الساقية حية بلا شك .. ! ..
نظر له ( حمدي ) في تشفٍّ كأنه يسمع ما يفكر فيه ..
ــ ماذا بك ؟!
ــ لاشيء .. أين المنزل ؟! ...
ــ هنا ..
يفتح ( عماد ) فاهُ في غباء ..
ــ هنا ؟!! .. تركتني هنا وحدي ؟! .. ماذا بك ؟! .. هل جننت ؟!
يرفع ( حمدي ) حاجبيه .. إنه يمثل بلا شك :
ــ وماذا كنت تريد ؟ حسبتك لا تصدق هذه الأشياء .. ! .. لا يخاف من لا يصدق ..
ــ أُفْ .. وهل أزالوه ؟!
ــ نعم ، منذ فترة لا بأس بها ..
ويأتي السؤال الجيد :
ــ قل لي .. كيف عرفت أن هذا المكان بالتحديد هو ما كان سابقًا منزلها ؟! بل كيف عرفت العجوز نفسها أصلا ؟!!
يهز رأسه في فخر :
ــ أنا ممن يحبون هذه الأشياء .. هادم أساطير ، لكنني لست محترفًا ، ما زلت مبتدئًا بعد .. لذا كنت أسعى منذ فترة وراء العجوز .. وها أنت وجدتها ..
ــ ولماذا جئنا إلى هنا ؟!
ــ لأحكي لك ..
ــ تحكي لي ماذا ؟!
ــ أحكي لك ما حدث .. ما بك يا ( عماد ) ؟!!
ــ لكنها .. أ .. ابدأ إذًا ..

*
 (7)
يحكيه ( حمدي )
*
ــ رقيقة بطبعها .. حالمة كالوجود .. ساحرة ساهرة حتى الصباح ..
 تحتاج الثمرة إلى من يقطفها .. لكن هذه الثمرة ، تلك الفتاة ، لم تحظ بمن يقطفها أبدًا ..

*
حمدي :
ــ يقولون أنها كانت بارعة الحسن والجمال .. تمشي على القمح فلا تكسر له عودًا .. في أي قصة درامية يلزم وجود زوجة أب سيئة .. لكن للأسف أخذت أمها هذا الدور .. لم تظلمها وحدها ، بل ظلمتها هي وأخواتها الثلاث .. هنا يمكننا أم نقول أنها كانت أمًا منصفة في ظلمها لهم ..
عاشت الفتاة حياة بائسة بحق .. و...

عماد :
ــ ألا تختصر قليلا ؟!!

حمدي ( كأنه لم يسمع ) :
ــ لا تقاطعني .. هربت أخواتها الثلاث إلى القاهرة .. كنَّ جميعًا متقاربات في السن .. واحدة في العشرين وأخرى أقل قليلا .. والثالثة في السابعة عشر تقريبًا ...

عماد :
ــ اختصر أرجوك ..

حمدي :
ــ  حسنٌ .. بقيت الفتاة الصغيرة ، مع أمها .. أنت تعرف الأطفال ، لقد رفضت ببساطة أن تترك أمها لأنها .. أمها .. في النهاية هي طفلة يتيمة الأب .. ولا حاجة لها بفقدان الأم أيضًا .. سرعان ما ستعرف الفتاة أنه كان عليها أن تهرب .. أن ترحل بعيدًا ، لأن أمها ستسحق طفولتها عاجلا أو آجلا ... هذا ما يقولونه عنها ..
سأحكي لك جزءًا لا يعرفه أحد .. جزءًا اكتشفته بنفسي مؤخرًا .. لقد كانت الفتاة ملعونة .. تذهب مرغمةً وتجلس هنا حيث أنت تمامًا .. نعم ، ابتعد عن هذا المكان كي لا تصاب باللعنة .. نياهاهاهع .. المهم .. تجلس هنا وتنادي أشخاصًا غامضين .. أسماء أولى فقط .. ويأتون بالفعل .. مرة تجدها تبكي .. ومرة تبتسم .. ومرة تضحك بصوت عالٍ .. ومرة أخرى ، وربما كانت هذه الأخيرة ، تهرع خلف  أحد أولئك اللذين تناديهم .. تصرخ :
" لا أرجوك .. لا تقتلهم .. " ، ويبدو أن هذا المسخ يرفض فسقطت في مكانها تبكي ، وتبكي .. حتى جاء النهار وحتى وجدوها في دارها ملطخة بالدماء .. حية لكن على مشارف الموت .. وطبعًا لم يصدقوا شيئًا مما قالته ..

عماد :
ــ ماذ تقول ؟! .. لقد حكت لي العجوز شيئًا مختلفًا تمامًا ..

حمدي :
ــ الفتاة لم يكن اسمها ( محروسة ) .. كان اسمها ( فوزية ) ..

عماد :
ــ ومن أين عرفت أنت ؟!!

حمدي :
ــ حسنٌ .. عليَّ أن أعترف .. لقد حكتها لي جدتي من قبل ... وأقول لك : لقد كانت العجوز تهذي .. 

عماد :
ــ عدنا لتخريف الجدات ... قم بنا نرحل .. عليك اللعنة لا أعرف كيف قبلت هذا ...

يُتبع .....

3 سبتمبر 2013



إياد عصام الزهيري .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق